مررت أمام واجهة ذاك المحل التجاري المتخصص في بيع فساتين الأعراس عدة مرات، وفي كل مرة أجد نفس الثوب لم يتبدل، لكن، بالرغم من روعته وشكله الذي لم أر مثله في حياتي، إلا أني كنت أستغرب هذا الشيء، فبالعادة تبدل المحلات ما تعرضه في واجهاتها كل فترة، وها قد مر أكثر من عام والفستان لا يزال موجودا. وفي يوم قررت أن أدخل وألقي نظرة، فوجدت سيدة جالسة خلف مكتبها تسبح، هي في منتصف الخمسينات، ملامحها دقيقة لا زالت تحتفظ بمسحة من الجمال الهادئ، شكلها راق، وكلامها هادئ. استقبلتني بابتسامة باهتة ووقفت قائلة.. تفضلي يا ابنتي بماذا أستطيع أن أخدمك، كنت أتوقع أن أجد بائعة عربية أو فلبينية كمعظم الأماكن، فقلت شكرا لا تتعبي نفسك، سوف ألقي نظرة على الفساتين والإكسسوارات لآخذ فكرة، وإن أردت شيئا سوف أسألك. وبالفعل أخذت ألف في المكان، أعجبني ذوقها وطريقة عرضها، الإضاءة ورائحة البخور التي تملأ المكان، الشاشة التي تعرض أزياء لأشهر مصممي العالم، لفتني أن العرض لم يكن جديدا، فقد سبق لي أن رأيته، عزوت ذلك إلى أنه مسجل وتعيد عرضه، أكملت وأنا مبهورة بالديكور، حتى البلاط الزجاجي السميك كان مميزا وجديدا نوعا ما، فقد كان لكل بلاطة لمبة تنيرها من الأسفل بألوان مختلفة كقوس قزح. قلت لها بالفعل ذوقك رائع ورفيع يا سيدتي هل لي أن أسألك من صممه لك، ابتسمت وقالت بفخر واضح إنها ابنتي. قلت ما شاء الله هل هي مهندسة ديكور. قالت لا لكنها فنانة مبدعة تحب الرسم والديكور وتنسيق الورود والحدائق، لكنها تخصصت بتصميم الأزياء ولإكسسوارات، كل ما هو معروض هنا من تصميمها لقد كانت المفضلة وهي تدرس عند المصمم المشهور (روبيرتو كافالي) في فساتين الزفاف. تعالي سأريك شيئا تبعتها إلى حيث توجهت، وضعت قفازا أبيض قطنيا بيدها، وسحبت من الخزانة الزجاجية فستاناً رائعاً وقالت انظري إليه، قماشه من الحرير الطبيعي مائة بالمائة وهذه اكسسواراته وتلك طرحته، ثم سارت خطوات لتمسك بآخر، وتضعه على الطاولة الكبيرة قائلة.. انظري إلى الأحجار المطرزة عليه إنها (شواروفسكي) أترين لمعانها وجمالها، لقد تم تطريزه باليد، وطرحته الطويلة الممتدة لأمتار كثيرة خلفها مطرزة أيضا يدويا.
كانت تمرر يدها عليه بإعجاب وحب، تلمسه برقة وخفة، قالت هذا معه تاج مرصع بأحجار مثل الموجودة عليه لكن بأحجام أكبر. قلت وانا أبدي إعجابي بكل قطعة وأقول فعلا روعة، سأكلم صديقاتي عنها لكنك لم تقولي لي ما اسمها ابنتك أجابت، طيف. حاولت أن ابحث في رأسي عن هذا الاسم إن كان مر أمامي لكن لا شيء، فقالت عندما أطلت التفكير.. لم تسمعي بها أليس كذلك، وكان هذا السؤال بالضبط ما أخشى أن تسألني إياه قلت الصراحة الكذب خيبة، لا لم أعرفها لكن يبدو أنني قد ابتعدت قليلا عن عالم الأزياء ومتابعة خطوط الموضة أين هي ابنتك الآن هنا أو في الخارج، صمتت وخفضت نظرها إلى مكتبها ثم قالت إنها في مكان بعيد لكن مريح على ما أرجو، يا ربي قلت لنفسي أنا دخلت لأرى ما قصة الفستان في الواجهة وإذ بفضولي يزيد، صمتت السيدة التي بدا حزنها جليا على وجهها هل تزوجت تلك الابنة وسافرت مع زوجها إلى مكان ما وهي لا تريده أم ماذا؟
لو عدتم إلي لطرحت عليها سيلا من الأسئلة لكنني احترمت صمتها وحزنها فبدلت الموضوع وقلت ألا يوجد عندك من يساعدك. قالت لا لست بحاجة إلى أحد. كانت طيف تستعين بعدد كبير من الفتيات عندما كانت الزبائن تتهافت عليها لكن الآن وبما أنها لم تعد تأتي فمن يحتاجهن. معك حق سيدتي حسنا.. هل أستطيع أن أرى من قريب الفستان المعروض في الواجهة الخارجية. قالت لا آسفة حبيبتي فهذا الفستان بالتحديد لا أحد يلمسه هو فقط للعرض، قلت باستغراب كما تشائين على كل حال سوف أعود فيما بعد، شكرا لك، حملت حقيبة يدي وسرت خطوتين فسمعتها تقول انه فستان زفاف طيف. توقفت مكاني واستدرت لأرى الدموع تملأ مقلتيها، اقتربت منها مسرعة وقلت لها أنا آسفة سيدتي لم أقصد أن أذكرك بأشياء تحزنك قالت تذكرينني؟ وهل تعتقدين إنني نسيت فالأم يا ابنتي مستحيل أن تنسى أولادها فلذات كبدها، وتابعت إنه اليوم الأول لي هنا في المتجر لم استطع الدخول إليه قبل الآن، فأنا أراها بكل ركن وأشعر بيديها تزين وترتب، أراها أمامي تتنقل كالفراشة فرحة بما أنجزت، تنظر بإعجاب إلى الحلم الذي حققته بلمساتها وفنها بذوقها الرفيع ومهارتها، لقد كانت منذ صغرها مولعة بالرسم، كنت أعطيها قلماً ودفتراً فتنام على الأرض، وتبدأ برسم الفساتين والأحذية مع العقد والحلق الأساور والخواتم الساعات والخلاخيل. كانت تلونها بألوان متناسقة جميلة فترتسم الدهشة على وجهي، كنت أنتظر والدها لأريه ما فعلت كانت فتاة ذكية لامعة، كنت أحاول تنمية موهبتها فأتيت لها بمدرسة تعلمها الرسم، كانت كل حياتي فأنا لم أنجب غيرها، كانت وحيدتي، عندما علمت من الطبيب بأنه استأصل الرحم بسبب وجود تكيسات خبيثة صدمت. لكن وجودها في حياتي كان نعمة من الله سبحانه وتعالى فقد جعلتني أصبح أما، طلبت من زوجي مرارا وتكرارا أن يتزوج لينجب المزيد من الأطفال لكنه رفض، فقد ملأت طيف حياته سعادة وقال يكفيني أن أسمع كلمة بابا منها وهذه مشيئة الله، لذلك كنا نصب كل اهتمامنا وحبنا عليها، تعلقنا جدا بها أكثر مما يفعل الآباء عادة لأننا كنا نعلم بأننا لن ننجب غيرها. كانت تجلس قربي وتمسك مجلات الموضة التي كنا نبتاعها لأنها كانت تحبها، كانت هي من تختار ملابسها من المتجر عندما كانت في الثالثة من عمرها وان ابتعت لها شيئاً ولم يعجبها كانت ترفض أن ترتديه. كبرت بسرعة تلك الصغيرة، لم نشعر بالأعوام كيف مرت وأصبحت شابة. قررت أن تسافر لتتخصص بالخارج وتسكن مع زميلاتها بالحرم الجامعي لكننا من خوفنا عليها وعدم تقبل بعدها عنا سافرنا معها أنا ووالدها لنبقى بقربها إلى أن أنهت تخصصها وطلبها عدد كبير من المصممين لتعمل معهم لكنها شكرتهم وأخبرتهم أنها ستفتح محلا للأزياء في بلدها وهكذا صار. عدنا وبدأنا نبحث عن المكان المناسب. كانت في البداية تصمم لصديقاتها فساتين زفافهن تقدمة منها كانت تقول إنها الطريقة الأفضل ليعرفها الناس وفعلا بدأت الفتيات يتهافتن عليها لتصمم لهن. أصبحت مشهورة ومعروفة بفترة بسيطة حتى أن سيدات راقيات ومعروفات في البلد أرسلن بطلبها، كانت تعمل دون توقف بكد وتعب فرحة بالنتيجة التي وصلت إليها بفترة لا تتعدى العام الواحد ثم بدأت توسع نشاطها ليشمل الكوشة والزفة وتصميم الديكورات والورود ثم أصبحت تستلم الفرح كله بكامل تفاصيله بدءاً من المكان إلى الزينة والكعكة وتصوير الفيديو والصور الفوتوغرافية. كانت تستحدث لهم الأشياء كل واحدة حسب ميزانيتها إلى أن أتاها الزفاف الكبير لأحد الأثرياء المعروفين في البلد حيث سمعت عنها العروس وطلبتها لتجهز فرحها كاملا. أرادت أن تعرض عليها عدة أفكار، لكنها قالت كما تريدين افعلي، فانا أعجبني ذوقك جدا.